المرأة بين الجمود على الموروث وشطحات المعاصرين!
مما لا شك فيه أن حال المرأة فى عصر صدر الإسلام وما تلاه من القرون الأولى يختلف كثيرًا عن حالها فى عصرنا الحالى، فقد تغيرت أنماط الحياة وشاركت المرأة فى مجالات الحياة المختلفة، بل تولت القيادة فى كثير من المناصب.
لذا، فإن الجمود على الموروث من الأحكام الخاصة بالنساء- التى اجتهد فيها سلفنا الصالح وكانت ملائمة للنساء وقتها- واعتبارها أحكامًا لازمة للمرأة فى زماننا، يظلم المرأة ولا يحقق المرونة التى تتسم بها شريعتنا الإسلامية، ولا أدل على ذلك من أن الأحكام القطعية الثابتة التى لا تتغير بتغير الزمان والمكان والثقافات جاءت قليلة محصورة، كما أوكلت شريعتنا لاجتهادات الفقهاء كثيرًا من الأحكام التى تتعلق بأمور حدث بعضها بالفعل فى القرون الماضية، ومنها ما وقع فى عصرنا، ومنها ما سيحدث فى المستقبل، وجاء بعض الأحكام محمولًا فى نصوص تقبل التأويل والخلاف بين المجتهدين لتتعدد الأحكام المستنبطة منها تيسيرًا على المكلفين، وكثير من هذه الفروع لم تتناوله النصوص أصلًا، بل اجتهد فيه المجتهدون على هدى من النصوص العامة.
وبالنظر فى الأحكام الواردة فى حقِّ النساء موضوع المقال نجد أنها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: محكم ثابت لا يقبل الاجتهاد ولا يقبل تغييرًا ولا تبديلًا وهو ملزِم للنساء إلى أن تقوم الساعة، ومن ذلك أن المرأة لا يجوز لها أن تتزوج أكثر من رجل فى وقت واحد، ومقدار إرثها، وأحقيتها فى الحضانة وتقديمها على غيرها، فهذه الأحكام ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، فقد علم الله تعالى أزلًا أنها تناسب حال المرأة فى كل زمان ومكان، ومن ثم جاءت بهذا الشكل الحاسم ولم تُترَك لاجتهاد الفقهاء، ولذلك فإنه من التطاول والشطح أن يطالب البعض بإعادة النظر فى مثل هذا النوع من الأحكام بدعوى اختلاف حال المرأة فى زماننا عن حالها فيما مضى بعد أن خرجت للعمل وشاركت الرجال فى شتى مناحى الحياة، ومع ذلك فإنه يمكن معالجة بعض الحالات التى تتعلق بكسب المرأة ومساهمتها فى تكوين ثروة زوجها بإثبات حقها وتعويضها بعيدًا عن تغيير مقدار نصيبها المقرر فى ميراثها، فإثبات الربع أو الثمن لها فى تركة زوجها لا يمنع من حصولها على بقية حقوقها المالية كمؤخر الصداق والنفقة وسائر ديونها لدى الزوج، ويأخذ هذا الحكم ما شاركت فيه زوجها من بناء عقار أو شراء أرض أو نحوها فى حال كانت ثَرية من إعارة أو وظيفة تدر دخلًا ربما يجاوز دخل زوجها وثبت أنها كانت تشارك زوجها بدخلها فى ما اشتراه، فهى شريكة له، ويمكن لأهل الخبرة تقدير ما تستحقه من ثروة زوجها بقدر ما أنفقت من مال كما لو لم تكن زوجة، ولا علاقة لهذا بميراثها، ويستوفى كل ذلك قبل أن تقسم التركة، بل إن ذلك لا علاقة له بانتهاء الحياة الزوجية بالموت أو الطلاق أصلًا.
والقسم الثانى من الأحكام الواردة بحق النساء، هو الأحكام الاجتهادية التى اجتهد فيها سلفنا من الفقهاء فيما حملته النصوص غير القطعية أو ربما لم تتعرض له أصلًا، كتولى المرأة بعض الوظائف كالرياسة، والقضاء، واشتراط المحرم أو الزوج فى سفرها بعد أن أصبحت قائد طائرة، وغيرها من موضوعات. ومن الواجب تصحيح الفهم الخاطئ للموروث من هذه الأحكام الاجتهادية كالتناول الذكورى للحقوق والواجبات بين الزوجين الذى يظهر المرأة وكأنها خُلقت لمجرد إشباع رغبات الرجل، وأن دخولها الجنة مرهون برضاه عنها، أما هى فلا علاقة لها بدخول الرجل الجنة أو النار، مع أن الحقوق والواجبات فى شرعنا متبادلة بينهما! فإن كانت مرضاة الزوج جواز دخولها الجنة، فإن ظلم زوجها لها وسخطها عليه جواز دخوله النار، وإلا فما فائدة قول النبى، صلى الله عليه وسلم: «اسْتوْصُوا بِالنِّساءِ خيْراً»؟!
ومن ذلك أيضًا، أنه إذا كان التعدد حقًّا للرجال دونهن، فعلى الرجال الأخذ بالحكم كاملًا بشرطه كما ورد فى قول الله تعالى: «فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً»، وعلى الرجال أيضًا أن ينتبهوا إلى ما ورد من توجيه وتحذير فى قوله تعالى: «وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ»، وواقع الناس اليوم بين الآيتين عجيب غريب؛ إذ يغالب الهوى بعضَهم فتجده يأخذ جزءًا من الآية الأولى فيرى أن التعدد حق مطلق للرجال دون قيد أو شرط، مع أن الشرط ملاصق للتعدد فى الآية نفسها ولم يرد فى آية أخرى! وفى المقابل يرى بعضهم أن التعدد يكاد يكون غير جائز لتعلقه بشرط نَصَّ الشرع على استحالته، فإن كانت الآية الأولى اشترطته فإن الآية الثانية بَيَّنت أنه غير مستطاع ولو حرص المعدِّد! وكلا الفهمين خاطئ؛ فالتعدد مشروع متى وُجدت الحاجة وغلب على الظن إمكانية العدل الذى خففه الشرع لتعذر تحققه بالمعنى الذى تحمله الكلمة، حيث قد يتحقق بالحرص عليه وعدم تعمد الميل إلى إحداهن، إضافة إلى العدل الظاهر المتعلق بالإنفاق والسكن وحسن المعاملة، فهذا لا تسامح فيه لأنه فى استطاعة الرجل.
ويجب كذلك تصحيح الفهم الخاطئ فى أن الاستئذان للسفر خاص بالمرأة دون الرجل، فإذن المرأة ورضاها ضرورى لسفر الزوج، فإن كانت تتضرر بسفره - ماديًّا أو معنويًّا - وجب عليه البقاء معها ويأثم إن لم يفعل. وكذا القوامة التى لا علاقة لها بالتسلط والسلطة المطلقة والتفضيل كما يظنه كثير منهم، وغير ذلك كثير من الأحكام المتعلقة بالمرأة التى قد يفهمها بعض الرجال والنساء كذلك فهمًا خاطئًا، ولو أُخذت هذه الأحكام على وجهها الصحيح الذى وردت عليه لتحقق الوئام والسكن والمودة بين الزوجين، وزال الضيق والضجر من نفوس النساء.
وإذا كانت معاودة الاجتهاد فى كثير من أحكام المرأة التى ذكرها السابقون وناسبت زمانهم دون زماننا مطلوبةً، وكذا إذا كان تصحيح فهم كثير من الأحكام التى تأثرت بالخطاب الذكورى والنظرة السطحية فاستقرت فى الأذهان على غير حقيقتها مطلوبًا أيضًا؛ فإنه من الضرورى كذلك إعادة النظر - بل رد - شطحات بعض المعاصرين من أدعياء الدفاع عن المرأة ونصرتها، وشطط بعض الزعامات النسوية التى تصل إلى حد رفض الثوابت أو أن يُستبدل بها ما يعتقدن أنه فى صالحهن، وهو ليس كذلك، بل إنه يحولهن إلى رجال، وساعتها سيعرفن كم أضررن بأنفسهن من حيث أردن النفع، فقد خلق الله الناس نوعين ذكورًا وإناثًا، ولم يخلقهم نوعًا واحدًا، وجعل لكل منهم حقوقًا وواجبات، وقد صان الشرع الحنيف المرأة أُمًّا، وأختًا، وزوجة، وبنتًا، وأجنبيةً أيضًا، فالمطلوب هو الفهم الصحيح لأحكام الدين بعيدًا عن الإفراط والتفريط أو الشطط فى الفهم والجمود على المنقول، فكما نرفض ونحذر من شطحات بعض المعاصرين، فإن الجمود على الموروث والتحرج من الاقتراب منه مرفوض أيضًا حتى من أولئك العلماء السابقين الذين اجتهدوا فيه كما عبروا هم أنفسهم عن ذلك، ومنهم الإمام القرافى الذى قال: «والجمود على المنقولات أبدًا ضلال فى الدين، وجهل مقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين».